عندما يكتبك ظلك، أو ذلك الصوت الداخلي، وربما هي كتابة الملكين الموكلين بكتابة حسناتك وسيئاتك، هكذا جاءت رواية "1970" للروائي المتمرد دائمًا "صنع الله إبراهيم"، بعد فترة ليست بالقصيرة خلت فيها المكتبة المصرية والعربية من ابداعه، ليطل مجددًا على عشاق الرواية الحقيقيين بهذه الرواية المصنوعة بحرفة السنين.
عام أو أقل من حياة الزعيم "جمال عبدالناصر"، يختفى شخوص الرواية وحتى بطلها، وكل أحداثها، في ذلك الصوت الخفي الذي يروي الأحداث بكل تفاصيلها، السياسية، والاجتماعية، وما يختلج في نفس من يروي عنهم من أحاسيس ومشاعر، في لقطات سريعة متلاحقة، وكأنك تقرأ مذكرات عقل الرجل" عبدالناصر"، وكيف كان ينظر للأمور والأحداث كلها، من قلق وشجاعة، ومرارة الهزيمة، وفرح بالأحفاد، ولقاء الأصدقاء، وردود الأفعال المتوقعة، وغير المتوقعة، في سلاسة عجيبة ينقل لك مذكرات، تظن أنها مذكرات سياسية، أو حربية، محتكما لما كانت تمر به الأمة العربية كلها في ذلك الوقت، بل والعالم كله.
ما أن تستغرق في تلك اليوميات الحربية، وأحداث حرب الاستنزاف، حتى يخطفك سريعًا إلي إعلانات مبوبة، وتجارية، راصدًا تلك الحالة الاجتماعية والاقتصادية التي كانت عليها مصر في العام 1970 م، فتجد أن الإعلانات عن البالطو الصوف الإنجليزي بقيمة 8-4 جنيهات، جنبًا إلى جنب مع إعلان عن طرح أسطوانات صوت القاهرة أغنية للفنانة "ليلى نظمي" ادلع يا عريس!
تقاطعت خيوط تلك المذكرات الروائية في ذهن الزعيم، بين مناطق الصراع في ذلك الوقت بشكل متساوٍ تمامًا، ما بين الأردن وفلسطين، وسوريا ولبنان، ولم يغفل الأحداث في ليبيا والسودان، مرورًا بلمحات طفيفة عن وضع السعودية وموقف الملك فيصل من عبدالناصر.
ويقول عن تاريخ 19 أبريل لتلك السنة:« كريم مروة أحد زعماء الحزب الشيوعي اللبناني في الملتقى الفكري في الخرطوم: الاشتراكية العلمية أخذت تشكل الإطار العام للفكر الثوري العربي».
وينتقل إلى يوم 9 يونيو: «محاولات حصر الأزمة بين المقاومة والجيش الأردني، الاشتباكات أوقعت 104 قتلى وجرحى، انتخاب عرفات قائدا عاما لمنظمات المقاومة، وبدأ موسم عودة 10 آلاف مدرس مصري يعملون في البلاد العربية».
هكذا ينقلك بسلاسة بين أحداث التاريخ نفسه بشكل مميز للكتابة، لكنه عندما يعود لمذكرات" الصوت الداخلي" يأخذك إلى عمق مقصود حتى في شكل الكتابة ولونها الداكن.
رواية 1970 التي صنعها "صنع الله إبراهيم" – وخيرًا فعل- لأنها بعيدة كل البعد عن الحديث عن الزعيم الأسطورة، كما صورته بعض الكتابات، أو الزعيم الكارتوني، كما أطلق عليه كثير من أعدائه، فبعيدًا عن هذا وذاك جاءت الرواية، مختزلة تاريخ أمة عاشت سنوات على ذلك الحلم الناصري في توحيد الأمة العربية، والوصول بها إلى العالمية، تسعة أشهر من العام 1970 ، تلخص شخصية "الزعيم"، وكل الأحداث التي أحاطت به، وأحاط بها، لتسهل على أجيال لم تعاصره، وتحتار في أمره، لتفهم، أو على أقل تقدير يقدم لها الكاتب مقاربة، ويترك لها الحكم، وإن لم يعد للتجربة الناصرية إن جاز التعبير سوى اسمها فقط، ولكن ليعرف الشباب تاريخهم بغير زيف أو تأويل، أو تصارع بين هذا التيار وذاك، باختصار يضع أمامها كل الأوراق على الطاولة.
ولم يكن مستغربا أيضًا أن أغلب مَنْ تم سجنهم في عصر عبدالناصر، هاموا به عشقًا أيضًا، ليس من منطلق عقلية أو نفسية "متلازمة ستوكهلم"، التي يقدس فيها السجين سجانه، ويعتبره النموذج والقدوة، ولكن من كتب عبدالناصر حتى بعد سجنه، كان إنصافًا للرجل، كما فعل عمنا أحمد فؤاد نجم، وها هو الروائي المصنف الأفضل عربيًا "صنع الله إبراهيم"، الذي سُجِن في عهد عبدالناصر لمدة خمس سنوات من 1964-1959 ، بتهمة الانتماء للفكر اليساري، ولكن بعد تجربة عبدالناصر، وانتهاء عهده، ظل الروائي الأحمر على عهده، فكتب رواية "اللجنة" التي هجا فيه عهد السادات وانفتاحه على أمريكا، وتمت مصادرة الرواية في وقتها ولم يتم السماح بنشرها إلا بعد 45عامًا!
الآن و"صنع الله" على مشارف الـ 83 من عمره، يعود ليكتب عن "عبدالناصر"، ويتصدر غلاف روايته صورة مشوشة لعبد الناصر، ويسجل خطراته التي تستحق التوقف أكثر من مرة، فيقول عن يوم 9 يونيو الذي قرر فيه عبدالناصر التنحي محدثا نفسه:« كنت في غرفة مكتبك منذ الفجر، بدوت مرهقا، وقد طعنت في السن فجأة، إذا كان عامر قد ضيع الجيش بإهماله فإنك أنت المسؤول الأول، أنت الذي أبقيت عليه إلى جوارك...... هكذا كان شعورك في تلك اللحظات :أن كل شيء قد ضاع ولابد من الانصياع».
وتدحرجت ساعات ذلك الصباح يوم 9 يونيو ببطء والأنباء تتوارد عن القادة العسكريين الذين هربوا من اللحظة الأولى، وعدد الطائرات المصرية التي دمرت تماما وبلغ 170 طائرة، وأعداد الشهداء الذين بلغوا 11 ألفا..... وتحاول أن تهرب من صورهم المؤلمة فتتأمل بمرارة نجاح خطة اصطيادك وفشلك في مواجهتها. وتشعر أنك وحيد تماما بصورة لم تعهدها من قبل.. ثم تعود إلى قرارك بالتنحي واختيار زكريا محيي الدين ليحل مكانك.. لم تتصور في يوم من الأيام أن يكون زكريا هو من سيخلفك، بل كان عبدالحكيم عامر هو أول من يقفز إلى ذهنك على الفور».
ليواصل ذلك الصوت الداخلي – الراوي- حديثه عن تلك الليلة، ليتحدث عن توقعاته لما هو آت، فيقول: « صعدت إلى غرفتك وجلست على مقعدك الفوتى المفضل تسترجع ما حدث، وحاولت أن تتصور المستقبل بعد التنحي، هل ستضطر إلى الانتقال من هذا المنزل الذي لم تعرف مكانا غيره منذ أن بدأ الأمر كله؟ أم سيتركونه لك كمكافأة نهاية الخدمة؟ وكيف ستكون صورة حياتك وأنت لم تعرف غير ما كنت تقوم به حتى الآن؟ هل تشارك هيكل أو زكريا في تربية الدواجن؟ ومن أين تأتي برأس المال.....» إلى آخر ذلك الحوار الكاشف، حتى تصل الجماهير إلى محيط قصر القبة ويحاصرونه، لا يطلبون شيئا إنما يرددون باسمه طول الوقت.
حتى كبار المعاونين، ومجلس الدولة، بل ومن خلال بعض التقارير وبرقيات وكالات الأنباء التي تصف مشاعر الصدمة التي أصابت وفود دول آسيا وافريقيا في الأمم المتحدة والتي دفعت بعضهم للبكاء علانية، ثم تصريح الجنرال ديجول الذي قال فيه: إنه يتمنى أن يتمكن الرئيس جمال عبدالناصر بشجاعته ووطنيته من الاستجابة لمشاعر أمته التي تطالبه بالبقاء في موقعه، ثم فيض البرقيات من كل أنحاء العالم عن الجماهير الصارخة الباكية في كل مدن وقرى العالم العربي، واتصالات عدد من الرؤساء تطالبه بالعدول عن قراره، وهو الذي كان يظن أن هذه الجماهير ستعلق له المشنقة في ميدان التحرير، غير أن هذا الشعب غريب ولا يمكن توقع ما يريد ويفعل.
حتى يتوصل إلى قرار البقاء في مكانه «حتى تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعا من أن نزيل آثار العدوان»، ويذيلها بعبارة« وانتهت مرحلة من مراحل ملحمتك.»
ولا يغفل صنع الله سرد تفاصيل المؤامرات، والاتفاقات السرية التي كانت تدور من وراء ظهره، وكان بطلها السادات، الذي ذهب إلى أمريكا بترتيب من كمال أدهم رئيس المخابرات السعودية آنذاك، والشيك الذي أصدره له حاكم الكويت بقيمة 65ألف دولار، ومطالبة عبدالناصر للسادات برد الشيك ولكنه لم يفعل، وكثير من أفعال حسن التهامي، وادعاؤه الدروشة، ولمحات من الأحداث في ليبيا والسودان والانقلابات التي تمت، وكيف أشفق ناصر على النميري والقذافي وقتها.
حتى تتصاعد وتيرة الأحداث وتصل إلى ذروة الأحداث بكثير من الضغوطات يومي 28-27 سبتمبر، واصفًا جلسة مؤتمر القمة العربية، والجو المتوتر الذي ساد الجلسة، وحتى تلك الدعابة الخفيفة التي دارت على غير العادة بين الملك فيصل وعبدالناصر، عندما توجه إلى القاعة فبادره الملك قائلا: «فخامة الرئيس، لا اريد أن أجلس وسط كل هذه المسدسات» قلت له ضاحكا : لا عليك، سوف أجلس أنا وسط هذه المسدسات، وتفضل أنت فاجلس مكاني».
لتمر الجلسة بكل ما فيها من توترات وتهدئات، ويكمل ناصر منهكًا يومه وما يليه متحاملًا على آلامه المتزايدة، ليقوم بواجب وداع الوفود التي حضرت القمة واحدًا تلو الآخر، ليمر عليه شريط الذكريات، وكأنها اللحظات التي تمر بالإنسان قبل وفاته، بحلوها ومرها، وصوابها وخطئها، ليقول الصوت الراوي قال الدكتور الصاوي: ألا تستريح سيادتك.. لقد فتحت جهاز الراديو ثم قفلته.. لا داعي لأي مجهود الآن. عدت تتمدد في فراشك قائلا: لا يا صاوي .. الحمد لله دلوقت انا استريحت. أغمضت عينيك ونزلت يدك من فوق صدرك لتستقر إلى جوارك. واسترخت ملامح وجهك.
ليختم صنع الله الرواية بجملة يقول فيها: خذلت نفسك وخذلتنا.. ثم ذهبت، وذهبت معك مقدرات الأمة وآمالها إلى حين!
ولتبقى أحد العبارات الرائعة التي أوردها الراوي: من يحكم منفردا فمصيره إلى الفشل.
-------------------------
قراءة -آمال رتيب